سورة يوسف - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


قوله: {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ} أي بنيامين {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} يعنون يوسف.
وقد اختلف المفسرون في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف ما هي؟ فقيل: إنه كان ليوسف عمة هي أكبر من يعقوب، وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسنّ أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سناً، من ذكر أو أنثى، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حباً شديداً، فلما ترعرع قال لها يعقوب: سلِّمي يوسف إليّ فأشفقت من فراقه، واحتالت في بقائه لديها، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها، ثم قالت: قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم.
وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة، وقيل: إن يوسف أخذ صنماً كان لجدّه- أبي أمه- فكسره وألقاه على الطريق تغييراً للمنكر. وحكي عن الزجاج أنه كان صنماً من ذهب.
وحكى الواحدي عن الزجاج أنه قال: الله أعلم، أسرق أخ له أم لا؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال: كذبوا عليه فيما نسبوه إليه، قلت: وهذا أولى، فما هذه الكذبة بأوّل كذباتهم، وقد قدّمنا ما يدفع قول من قال: إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم.
قوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ} قال الزجاج وغيره: الضمير في أسرّها يعود إلى الكلمة أو الجملة، كأنه قيل: فأسرّ الجملة في نفسه {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} ثم فسرها بقوله: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} وقد ردّ أبو عليّ الفارسي هذا فقال: إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل. وقيل: الضمير عائد إلى الإجابة، أي: أسرّ يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر، وقيل: أسرّ في نفسه قولهم: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}. وهذا هو الأولى، ويكون معنى {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرّها في نفسه بأن يذكر لهم صحتها، أو بطلانها، وجملة {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} مفسرة على القول الأوّل، ومستأنفة على القولين الآخرين، كأنه قيل: فماذا قال يوسف لما قالوا هذه المقالة؟ أي: {أنتم شرّ مكانا} أي: موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو بريء، فإنكم قد فعلتم ما فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجبّ، والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم، ثم قال: {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} من الباطل بنسبة السرقة إلى يوسف، وأنه لا حقيقة لذلك.
ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق له أخاهم بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدّم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردّوه إليه، فقالوا: {يأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} أي: إن لبنيامين هذا أباً متصفاً بهذه الصفة، وهي كونه شيخاً كبيراً لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه، ولا يقدر على الوصول إليه {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} يبقى لديك، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منا فلا يتضرّر بفراق أحدنا كما لا يتضرّر بفراق بنيامين، ثم عللوا ذلك بقوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إلى الناس كافة، وإلينا خاصة، فنعم إحسانك إلنيا بإجابتنا إلى هذا المطلب، فأجاب يوسف عليهم بقوله: {مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ} أي: نعوذ بالله معاذاً، فهو مصدر منصوب بفعل محذوف، والمستعيذ بالله هو المعتصم به، وأن نأخذ منصوب بنزع الخافض، والأصل من أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده، وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حلّ لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتموها بقولكم: {جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}.
{إِنَّا إِذًا لظالمون} أي: إنا إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لظالمون في دينكم وما تقتضيه فتواكم.
{فَلَمَّا استيأسوا منه} أي: يئسوا من يوسف وإسعافهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه، والسين والتاء للمبالغة {خَلَصُواْ نَجِيّا} أي: انفردوا حال كونهم متناجين فيما بينهم، وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كما في قوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52]. قال الزجاج: معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم {قَالَ كَبِيرُهُمْ} قيل: هو روبيل لأنه الأسنّ، وقيل: يهوذا لأنه الأوفر عقلاً، وقيل: شمعون لأنه رئيسهم {أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله} أي: عهداً من الله في حفظ ابنه وردّه إليه، ومعنى كونه من الله أنه بإذنه {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ} معطوف على ما قبله. والتقدير: ألم تعلموا أن أباكم وتعلموا تفريطكم في يوسف، ذكر هذا النحاس وغيره، و{من قبل} متعلقة ب {تعلموا} أي: وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل، على أن {ما} مصدرية، ويجوز أن تكون زائدة، وقيل: {ما فرّطتم} مرفوع المحل على الابتداء، وخبره {من قبل} وقيل: إن {ما} موصولة، أو موصوفة، وكلاهما في محل النصب أو الرفع، وما ذكرناه هو الأولى، ومعنى {فرطتم}: قصرتم في شأنه، ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض}. يقال: برح براحاً وبروحاً، أي زال، فإذا دخله النفي صار مثبتاً أي: لن أبرح من الأرض، بل ألزمها ولا أزال مقيماً فيها {حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى} في مفارقتها والخروج منها، وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الموثق بإرجاعه إليه إلاّ أن يحاط بهم كما تقدّم، {أَوْ يَحْكُمَ الله لِى} بمفارقتها والخروج منها، وقيل: المعنى: أو يحكم الله لي بخلاص أخي من الأسر حتى يعود إلى أبي وأعود معه، وقيل: المعنى: أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه، أو أعجز فأنصرف بعد ذلك {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} لأن أحكامه لا تجري إلاّ على ما يوافق الحق، ويطابق الصواب.
ثم قال كبيرهم مخاطباً لهم {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ}: قرأ الجمهور {سرق} على البناء للفاعل، وذلك لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين على البناء للمفعول، وروى ذلك النحاس عن الكسائي. قال الزجاج: إنّ سرق يحتمل معنيين: أحدهما علم منه السرق، والآخر اتهم بالسرق {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} من استخراج الصواع من وعائه، وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين} حتى يتضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه أو على خلافه؟ وقيل: المعنى ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرجا معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به. وقيل: الغيب هو الليل، ومرادهم أنه سرق وهم نيام، وقيل: مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم، فخفي عليهم فعله.
{واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا} هذا من تمام قول كبيرهم لهم أي: قولوا لأبيكم: أسأل القرية التي كنا فيها أي: مصر، والمراد أهلها أي: أسأل أهل القرية؛ وقيل: هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها وامتاروا منها. وقيل: المعنى: واسأل القرية نفسها وإن كانت جماداً فإنك نبيّ الله، والله سبحانه سينطقها فتجيبك. ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه: لا يجوز كلم هنداً وأنت تريد غلام هند {والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: وقولوا لأبيكم اسأل العير التي أقبلنا فيها أي: أصحابها وكانوا قوماً معروفين من جيران يعقوب {وِإِنَّا لصادقون} فيما قلنا. جاءوا بهذه الجملة مؤكدة هذا التأكيد، لأن ما قد تقدّم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} قال: يعنون يوسف.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: سرق مكحلة لخالته، يعني: يوسف.
وأخرج أبو الشيخ عن عطية قال: سرق في صباه ميلين من ذهب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سرق يوسف صنماً لجدّه- أبى أمه- من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره بذلك إخوته»
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله غير مرفوع، وقد روى نحوه عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ} قال: أسرّ في نفسه قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن قتادة مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق في قوله: {فلما استيأسوا منه} قال: أيسوا منه، ورأوا شدّته في أمره.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {خَلَصُواْ نَجِيّا} قال: وحدهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} قال شمعون الذي تخلف، أكبرهم عقلاً، وأكبر منه في الميلاد روبيل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال: كبيرهم هو روبيل، وهو الذي كان نهاهم عن قتله، وكان أكبر القوم.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: {أَوْ يَحْكُمَ الله لِى} قال: أقاتل بسيفي حتى أقتل.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن أبي صالح نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين} قال: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {واسئل القرية} قال: يعنون مصر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة مثله.


قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي: زينت، والأمر هنا قولهم: {إِنَّ ابنك سَرَقَ} وما سرق في الحقيقة، وقيل: المراد بالأمر إخراجهم بنيامين، والمضي به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد ذلك بالمضرّة. وقيل: التسويل: التخييل، أي: خيلت لكم أنفسكم أمراً لا أصل له. وقيل: الأمر الذي سوّلت لهم أنفسهم: فتياهم بأن السارق يؤخذ بسرقته، والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسهم، لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدّر كغيرها، وجملة: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل بي، وأولى لي، والصبر الجميل: هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى، بل يُفوّضُ أمره إلى الله ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أوّل الصدمة {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} أي: بيوسف وأخيه بنيامين، والأخ الثالث الباقي بمصر، وهو كبيرهم كما تقدّم، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت، وأنه باقٍ على الحياة وإن غاب عنه خبره {إِنَّهُ هُوَ العليم} بحالي، {الحكيم} فيما يقضي به {وتولى عَنْهُمْ} أي: أعرض عنهم، وقطع الكلام معهم وقال: {يا أسفا على يوسف}. قال الزجاج: الأصل يا أسفي، فأبدل من الياء ألفاً لخفة الفتحة، والأسف: شدة الجزع. وقيل: شدة الحزن، ومنه قول كثير:
فيا أسفا للقلب كيف انصرافه *** وللنفس لما سليت فتسلت
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير.
وقد روي عن سعيد بن جبير: أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع، والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال: {يا أسفا على يوسف}. ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال: تعال يا أسفي، وأقبل إليّ {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} أي: انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء. قيل: إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة. وقيل: كان يدرك إدراكاً ضعيفاً.
وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلاً أو بعضاً بأنه: إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حيّ، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذٍ كفار. وقيل: إن مجرد الحزن ليس بمحرّم، وإنما المحرّم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزنون» ويؤيد هذا قوله: {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: مكظوم، فإن معناه: أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه، من كظم السقاء: إذا سدّه على ما فيه، والكظم بفتح الظاء. مخرج النفس، يقال: أخذ بأكظامه، وقيل: الكظيم بمعنى الكاظم / أي: المشتمل على حزنه، الممسك له، ومنه:
فإن أك كاظما لمصاب ناسٍ *** فإني اليوم منطلق لساني
ومنه {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134].
وقال الزجاج: معنى كظيم: محزون.
وروي عن ابن عباس أنه قال: معناه: مغموم مكروب. قال بعض أهل اللغة: الحزن بالضم والسكون: البكاء، وبفتحتين: ضدّ الفرح، وقال أكثر أهل اللغة: هما لغتان: {قَالُواْ تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تفتأ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس. قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل كذا، أي: مازلت.
وقال الفراء: إن (لا) مضمرة، أي: لا تفتأ. قال النحاس: والذي قال صحيح.
وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجاً على ما قاله:
فقلت يمين الله أبرح قاعداً *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ويقال: فتيء، وفتأ لغتان، ومنه قول الشاعر:
فما فتئت حتى كأن غبارها *** سرادق يوم ذي رياح ترفع
{حتى تَكُونَ حَرَضاً} الحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، والصفة المشبهة، حرض بكسر الراء كدنف ودنف، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر:
سرى همي فأمرضني *** وقدماً زادني مرضا
كذاك الحب قبل اليو *** م ممَّ يورث الحرضَا
وقيل: الحرض ما دون الموت، وقيل: الهرم، وقيل: الحارض: البالي الدائر.
وقال الفراء: الحارض: الفاسد الجسم والعقل، وكذا الحرض.
وقال مؤرج: هو الذائب من الهمّ، ويدّل عليه قول الشاعر:
إني امرؤ لجّ بي حب فأحرضني *** حتى بليت وحتى شفني السقم
ويقال: رجل محرض، ومنه قول الشاعر:
طلبته الخيل يوماً كاملا *** ولو ألفته لأضحى محرضا
قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهمّ: إذا أسقمه، ورجل حارض: أي أحمق.
وقال الأخفش: الحارض الذاهب.
وقال ابن الأنباري: هو الهالك. والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة حتى يكون لقوله: {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} معنى غير معنى الحرض، فالتأسيس أولى من التأكيد، ومعنى {من الهالكين}: من الميتين، وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه.
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله} هذه الجملة مستأنفة، كأنه قيل: فما قال يعقوب لما قالوا له ما قالوا؟ والبث: ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها، كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثته، أي: فرقته، فسميت المصيبة بثاً مجازاً، قال ذو الرّمة:
وقفتُ على ربَع لمية ناقتي *** فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه *** تكلمني أحجارُهُ ومَلاعبُه
وقد ذكر المفسرون: أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزناً، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثاً، فالبثّ على هذا: أعظم الحزن وأصعبه، وقيل: البثّ الهمّ؛ وقيل: هو الحاجة. وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البثّ واضح المعنى. وأما على تفسير البث بالحزن العظيم، فكأنه قال: إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن إلى الله لا إلى غيره من الناس.
وقد قرئ: {حزني} بضم الحاء وسكون الزاي و{حزني} بفتحهما {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: أعلم من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ما لا تعلمونه أنتم. وقيل: أراد علمه بأن يوسف حيّ. وقيل: أراد علمه بأن رؤياه صادقة. وقيل: أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون.
{يا بني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} التحسس بمهملات: طلب الشيء بالحواس، مأخوذ من الحسّ، أو من الإحساس أي: اذهبوا فتعرّفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه. وقرئ بالجيم، وهو أيضاً التطلب {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} أي: لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة، فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتذ به فهو روح.
وحكى الواحدي عن الأصمعي أيضاً أنه قال: الروح: الاستراحة من غمّ القلب، وقال أبو عمرو: الروح: الفرج، وقيل: الرحمة {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} لكونهم لا يعلمون بقدرة الله سبحانه، وعظيم صنعه، وخفيّ ألطافه.
قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي: على يوسف، وفي الكلام حذف، والتقدير: فذهبوا كما أمرهم أبوهم إلى مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه، فلما دخلوا على يوسف {قَالُواْ أَيُّهَا العزيز} أي: الملك الممتنع القادر {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} أي: الجوع والحاجة، وفيه دليل على أنه تجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه، كما يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة، وهذه المرّة التي دخلوا فيها مصر هي المرّة الثالثة، كما يفيده ما تقدّم من سياق الكتاب العزيز {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} البضاعة هي القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، يقال: أبضعت الشيء واستبضعته: إذا جعلته بضاعة. وفي المثل: كمستبضع التمر إلى هجر. والإزجاء: السوق بدفع. قال الواحدي: الإزجاء في اللغة: السوق والدفع قليلاً قليلاً، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً} [النور: 43]، والمعنى: أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها التجار. قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. قال أبو عبيدة: إنما قيل للدراهم الرديئة: مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة.
واختلف في هذه البضاعة ما هي؟ فقيل: كانت قديداً وحيساً، وقيل: صوف وسمن، وقيل: الحبة الخضراء والصنوبر، وقيل: دراهم رديئة، وقيل: النعال والأدم. ثم طلبوا منه بعد أن أخبروه بالبضاعة التي معهم أن يوفي لهم الكيل، أي: يجعله تاماً لا نقص فيه، وطلبوا منه أن يتصدّق عليهم إما بزيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم، أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها، وأن يجعلها كالبضاعة الجيدة في إيفاء الكيل لهم بها، وبهذا قال أكثر المفسرين.
وقد قيل: كيف يطلبون التصدّق عليهم وهم أنبياء والصدقة محرّمة على الأنبياء.
وأجيب باختصاص ذلك بنبينا صلى الله عليه وسلم، {إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين} بما يجعله لهم من الثواب الأخروي، أو التوسيع عليهم في الدنيا.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} قال: يوسف وأخيه وروبيل.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يوسف وأخيه وكبيرهم الذي تخلف، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: {يا أسفا على يُوسُفَ} قال: يا حزناً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة مثله.
وأخرجوا عن مجاهد قال: يا جزعاً.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فَهُوَ كَظِيمٌ} قال: حزين.
وأخرج ابن المبارك، وعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال: كظم على الحزن فلم يقل إلاّ خيراً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: كظيم مكروب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الضحاك قال: الكظيم: الكمد.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} قال: لا تزال تذكر يوسف {حتى تَكُونَ حَرَضاً} قال: دنفاً من المرض. {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} قال: الميتين.
وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} قال: لا تزال تذكر يوسف {حتى تَكُونَ حَرَضاً} قال: هرماً {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} قال: أو تموت.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الضحاك {حتى تَكُونَ حَرَضاً} قال: الحرض: البالي {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} قال: من الميتين.
وأخرج ابن جرير، وعبد الرزاق عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من بث لم يصبر» ثم قرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله} وأخرج ابن منده في المعرفة عن مسلم بن يسار عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج ابن مردويه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً مثله.
وأخرجه ابن المنذر، وابن مردويه عن عبد الرحمن بن يعمر مرفوعاً مرسلاً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى} قال: همي.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في قوله: {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} قال: من رحمة الله.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك مثله.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: من فرج الله يفرج عنكم الغم الذي أنتم فيه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} قال: أي الضرّ في المعيشة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بِبِضَاعَةٍ} قال: دراهم {مُّزْجَاةٍ} قال: كاسدة.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه قال: {مزجاة} رثة المتاع، خلقة الحبل والغرارة والشيء.
وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه أيضاً {مزجاة} قال: الورق الزيوف التي لا تنفق حتى يوضع منها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن جرير في قوله: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} قال: أردد علينا أخانا.


الاستفهام في قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ} للتوبيخ والتقريع، وقد كانوا عالمين بذلك، ولكنه أراد ما ذكرناه، ويستفاد منه تعظيم الواقعة لكونه في قوّة: ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وأخيه، وما أقبح ما أقدمتم عليه؟ كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت؟ والذي فعلوا بيوسف هو ما تقدّم مما قصه الله سبحانه علينا في هذه السورة، وأما ما فعلوا بأخيه، فقال جماعة من المفسرين: هو ما أدخلوه عليه من الغمّ بفراق أخيه يوسف، وما كان يناله منهم من الاحتقار والإهانة، ولم يستفهمهم عما فعلوا بأبيهم يعقوب، مع أنه قد ناله منهم ما قصه الله فيما سبق من صنوف الأذى. قال الواحدي: ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغمّ بفراقه تعظيماً له، ورفعاً من قدره، وعلماً بأن ذلك كان بلاء له من الله عزّ وجلّ ليزيد في درجته عنده {إِذْ أَنتُمْ جاهلون} نفى عنهم العلم، وأثبت لهم صفة الجهل، لأنهم لم يعملوا بما يقتضيه العلم، وقيل: إنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم، وتخفيف الأمر عليهم، فكأنه قال: إنما أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم، وقصور معارفكم عن عاقبته، وما يترتب عليه، أو أراد عند ذلك في أوان الصبا وزمان الصغر، اعتذاراً لهم، لما يدهمهم من الخجل والحيرة مع علمه وعلمهم بأنهم كانوا في ذلك الوقت كباراً.
{قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ}. قرأ ابن كثير {إنك} على الخبر بدون استفهام. وقرأ الباقون على الاستفهام التقريري، وكان ذلك منهم على طريق التعجب والاستغراب. قيل: سبب معرفتهم له بمجرد قوله لهم: {مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} أنهم لما قال لهم ذلك تنبهوا وفهموا أنه لا يخاطبهم بمثل هذا إلاّ هو. وقيل: إنه لما قال لهم بهذه المقالة وضع التاج عن رأسه فعرفوه. وقيل: إنه تبسم فعرفوا ثناياه {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى} أجابهم بالاعتراف بما سألوه عنه. قال ابن الأنباري: أظهر الاسم فقال: أنا يوسف، ولم يقل: أنا هو، تعظيماً لما وقع به من ظلم إخوته، كأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم، والمراد قتله. فاكتفى بإظهار الاسم عن هذه المعاني، وقال: وهذا أخي مع كونهم يعرفونه ولا ينكرونه؛ لأن قصده وهذا أخي المظلوم كظلمي، {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا} بالخلاص عما ابتلينا به، وقيل: منّ الله علينا بكل خير في الدنيا والآخرة. وقيل: بالجمع بيننا بعد التفرق، ولا مانع من إرادة جميع ذلك {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ}. قرأ الجمهور بالجزم على أن {من} شرطية. وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في يتقي.
كما في قول الشاعر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبونُ بني زياد
وقيل إنه جعل {من} موصولة لا شرطية، وهو بعيد. والمعنى: إنه من يفعل التقوى أو يفعل ما يقيه عن الذنوب ويصبر على المصائب {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} على العموم، فيدخل فيه ما يفيده السياق دخولاً أوّلياً، وجاء بالظاهر، وكان المقام مقام المضمر، أي: أجرهم للدلالة على أن الموصوفين بالتقوى موصوفون بصفة الإحسان {قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} أي: لقد اختارك وفضلك علينا بما خصك به من صفات الكمال، وهذا اعتراف منهم بفضله وعظيم قدره، ولا يلزم من ذلك ألا يكونوا أنبياء، فإن درج الأنبياء متفاوتة، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] {وَإِن كُنَّا لخاطئين} أي: وإن الشأن ذلك. قال أبو عبيدة: خطئ وأخطأ بمعنى واحد.
وقال الأزهري: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، ومنه قولهم: المجتهد يخطئ ويصيب، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. قالوا هذه المقالة المتضمنة للاعتراف بالخطأ والذنب استجلاباً لعفوه واستجذاباً لصفحه.
{قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} التثريب التعيير والتوبيخ أي: لا تعيير ولا توبيخ، ولا لوم عليكم. قال الأصمعي: ثربت عليه: قبحت عليه فعله.
وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوّة، ولكم عندي الصلح والعفو، وأصل التثريب: الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز.
وقال ابن الأنباري: معناه. قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب. قال ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدّد عليه ذنوبه، وأصل التثريب من الثرب، وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش، ومعناه: إزالة التثريب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع، وانتصاب {اليوم} بالتثريب، أي: لا أثرب عليكم أو منتصب بالعامل المقدّر في {عليكم} وهو مستقرّ أو ثابت أو نحوهما، أي: لا تثريب مستقر أو ثابت عليكم.
وقد جوّز الأخفش الوقف على {عليكم} فيكون: اليوم متعلق بالفعل الذي بعده.
وقد ذكر مثل هذا ابن الأنباري، ثم دعا لهم بقوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} على تقدير الوقف على اليوم، أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على {اليوم} أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على {عليكم} {وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم فيجازي محسنهم ويغفر لمسيئهم.
قوله: {اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} قيل: هذا القميص هو القميص الذي ألبسه الله إبراهيم لما ألقي في النار وكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب. وكان يعقوب أدرج هذا القميص في قضيب وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب ليعود عليه بصره؛ لأنّ فيه ريح الجنة، وريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شفي، ولا مبتلي إلاّ عوفي {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} أي: يصْر بصيراً، على أن {يأت} هي التي من أخوات كان.
قال الفراء: يرجع بصيراً.
وقال السدّي: يعد بصيراً. وقيل: معناه يأتِ إليّ إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى، ويؤيده قوله: {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: جميع من شمله لفظ الأهل من النساء والذراري، وقيل: كانوا نحو سبعين، وقيل: ثلاثة وتسعين.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} أي: خرجت منطلقة من مصر إلى الشام. يقال: فصل فصولاً، وفصلته فصلاً، لازم ومتعدّ، ويقال: فصل من البلد فصولاً: إذا انفصل عنه وجاوز حيطانه {قَالَ أَبُوهُمْ} أي: يعقوب لمن عنده في أرض كنعان من أهله {إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} قيل: إنها هاجت ريح فحملت ريح القميص إلى يعقوب مع طول المسافة، فأخبرهم بما وجد، ثم قال: {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} لولا أن تنسبوني إلى الفند، وهو ذهاب العقل من الهرم، يقال: أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله.
وقال أبو عبيدة: لولا أن تسفهون، فجعل الفند السفه.
وقال الزجاج: لولا أن تجهلون، فجعل الفند الجهل، ويؤيد ذلك قول من قال: إنه السفه قول النابغة:
إلاّ سليمان إذ قال المليك له *** قم في البرية فاحددها عن الفند
أي: امنعها عن السفه.
وقال أبو عمرو الشيباني: التفنيد: التقبيح، ومنه قول الشاعر:
يا صاحبيّ دعا لومي وَتَفنيدي *** فليس ما فات من أمري بمردود
وقيل: هو الكذب، ومنه قول الشاعر:
هل في افتخار الكريم من أود؟ *** أم هل لقول الصدّيق من فند؟
وقال ابن الأعرابي: {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} لولا أن تضعفوا رأيي، وروي مثله عن أبي عبيدة.
وقال الأخفش: التفنيد: اللوم وضعف الرأي. وكل هذه المعاني راجع إلى التعجيز، وتضعيف الرأي، يقال: فنده تفنيداً: إذا عجزه، وأفند: إذا تكلم بالخطأ، والفند: الخطأ من الكلام، ومما يدل على إطلاقه على اللوم قول الشاعر:
يا عاذِلي دعا الملام وأَقصِرا *** طال الهوى وَأطلتُما التفنيدا
أخبرهم يعقوب بأن الصبا قد حملت إليه ريح حبيبه، وأنه لولا ما يخشاه من التفنيد لما شك في ذلك:
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست *** على نفس مهموم تجلت همومها
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني *** نسيم الصبا من حيث ما يطلع الفجر
ولقد تهبّ لي الصبا من أرضها *** فيلذّ مسّ هبوبها ويطيب
{قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} أي: قال الحاضرون عنده من أهله: إنك يا يعقوب لفي ذهابك عن طريق الصواب الذي كنت عليه قديماً من إفراط حبك ليوسف لا تنساه، ولا تفترّ عنه، ولسان حال يعقوب يقول لهم:
لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده *** ولا الصبابة إلاّ من يعانيها
لا تعذل المشتاق في أشواقه *** حتى تكون حشاك في أحشائه
وقيل: المعنى: إنك لفي جنونك القديم، وقيل: في محبتك القديمة. قالوا له ذلك لأنه لم يكن قد بلغهم قدوم البشير. {فَلَمَّا أَن جَاء البشير} قال المفسرون: البشير هو يهوذا بن يعقوب، قال لإخوته: أنا جئته بالقميص ملطخاً بالدم، فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حيّ، فأفرحه كما أحزنته {أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ} أي: ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه {فارتد بَصِيرًا} الارتداد: انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمعنى: عاد ورجع إلى حالته الأولى من صحة بصره {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ} أي: قال يعقوب لمن كان عنده من أهله الذين قال لهم: إني لأجد ريح يوسف، ألم أقل لكم هذا القول فقلتم ما قلتم، ويكون قوله: {إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} كلاماً مبتدأ لا يتعلق بالقول، ويجوز أن تكون جملة: {إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} مقول القول، ويريد بذلك إخبارهم بما قاله لهم سابقاً {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86]، {قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين} طلبوا منه أن يستغفر لهم، واعترفوا بالذنب، وفي الكلام حذف، والتقدير: ولما رجعوا من مصر ووصلوا إلى أبيهم قالوا هذا القول، فوعدهم بما طلبوه منه، و{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى}. قال الزجاج: أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنه أخلق بإجابة الدعاء، لا أنه بخل عليهم بالاستغفار، وقيل: أخره إلى ليلة الجمعة، وقيل: أخره إلى أن يستحلّ لهم من يوسف، ولم يعلم أنه قد عفا عنهم. وجملة {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} تعليل لما قبله.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عكرمة في قوله: {لاَ تَثْرَيبَ} قال: لا تعيير.
وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة التفت إلى الناس فقال: «ماذا تقولون وماذا تظنون؟ فقالوا: ابن عمّ كريم، فقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألم تر إلى قول يوسف {لا تثريب عليكم اليوم}؟.
وقال يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى}.
أقول: وفي هذا الكلام نظر فإنهم طلبوا من يوسف أن يعفو عنهم بقولهم: {لقد آثرك الله علينا} فقال: لا تثريب عليكم اليوم، لأن مقصودهم صدور العفو منه عنهم، وطلبوا من أبيهم يعقوب أن يستغفر الله لهم وهو لا يكون إلاّ بطلب ذلك منه إلى الله عزّ وجلّ، وبين المقامين فرق، فلم يكن وعد يعقوب لهم بخلاً عليهم بسؤال الله لهم، ولا سيما إذا صح ما تقدّم من أنه أخر ذلك إلى وقت الإجابة.
فإنه لو طلبه لهم في الحال لم يحصل له علم بالقبول.
وأخرج الحكيم الترمذي، وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: لما كان من أمر إخوة يوسف ما كان، كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إلى عزيز آل فرعون: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أما بعد: فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء، كان جدّي إبراهيم خليل الله ألقي في النار في طاعة ربه، فجعلها الله عليه برداً وسلاما، وأمر الله جدّي أن يذبح له أبي ففداه الله بما فداه، وكان لي ابن وكان من أحبّ الناس إليّ ففقدته، فأذهب حزني عليه نور بصري، وكان له أخ من أمه كنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري فأذهب عني بعض وجدي، وهوالمحبوس عندك في السرقة، وإني أخبرك أني لم أسرق، ولم ألد سارقاً؛ فلما قرأ يوسف الكتاب بكى وصاح وقال: {اذهبوا بِقَمِيصِى هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا}.
وأخرج أبو الشيخ عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: «{اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} أن نمروذ لما ألقى إبراهيم في النار نزل إليه جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة، وقعد معه يتحدّث، فأوحى الله إلى النار {كُونِى بَرْداً وسلاما} [الأنبياء: 69]» ولولا أنه قال: {وسلاماً} لآذاه البرد.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعاً: إن الله كسا إبراهيم ثوباً من الجنة، فكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، فأخذه يعقوب فجعله في قصبة من حديد وعلقه في عنق يوسف، ولو علم إخوته إذ ألقوه في الجب لأخذوه، فلما أراد الله أن يردّ يوسف على يعقوب كان بين رؤياه وتعبيره أربعون سنة، أمر البشير أن يبشره من ثمان مراحل، فوجد يعقوب ريحه فقال: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} فلما ألقاه على وجهه ارتدّ بصيراً، وليس يقع شيء من الجنة على عامة من عاهات الدنيا إلاّ أبرأها بإذن الله.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وأحمد في الزهد، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} قال: لما خرجت العير هاجت الريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: {إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} تسفهون، فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه قال: وجد ريحه من مسيرة عشرة أيام.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عنه قال: وجده من مسيرة ثمانين فرسخاً.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أيضاً {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} قال: تجهلون.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً: قال: تكذبون.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: تهرمون، يقولون: قد ذهب عقلك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن الربيع قال: لولا أن تحمقون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} يقول: خطئك القديم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جنونك القديم.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: حبك القديم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: البشير: البريد.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن الضحاك مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سفيان قال: البشير هو يهوذا بن يعقوب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: لما أن جاء البشير إلى يعقوب فألقى عليه القميص قال: على أيّ دين خلفت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة.
وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن مسعود في قوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى} قال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: أخرهم إلى السحر، وكان يصلي بالسحر.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عنه قال: أخرّهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصه: «هو قول أخي يعقوب لبنيه: {سوف أستغفر لكم ربي} يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6